a

الفلسفة والتفلسف


إن إلقاء نظرة تاريخيّة على الفلسفة يؤدّي إلى الانتباه إلى أنّ تاريخ الفلسفة مليء بالتّحوّلات و التّغيّرات، و أنّ هناك تعارضا و تضاربا بين مختلف الأنساق الفلسفيّة. هذه الطّريقة تنتهي إلى الإقرار بغياب وحدة ناظمة لمختلف الممارسات الفلسفيّة عبر التّاريخ. و يترتّب عن ذلك كلّه أنّ سؤال ما الفلسفة ؟ الذّي يطمح إلى الإمساك بالماهيّة (بما هو ثابت و بما هو واحد وأبدي) لا يمكن أن نجيب عنه بالاستناد إلى هذا المنهج. وبالتالي يقتضي الدّخول في الفلسفة و التّعرّف على ماهيّتها التّخلّي عن هذه المقاربة التّاريخيّة.

تقديم:
حين نستحضر واقع الفكر الفلسفي، في لحظته الإغريقية، و حادثة موت سقراط، الذي يعبّر بشكل ما عن موقف العامّة المعادي لهذا النّوع من المباحث، نستغرب حديث نفس هؤلاء العامّة، اليوم، عن فلسفتهم المزعومة في الحياة. إذ كيف نفهم حساسيّة الإنسان العادي المرضيّة من الفلسفة، من جهة، و إحساس كلّ فرد منّا، في حياته اليوميّة، من جهة أخرى، بأنّ شرط التّعامل مع العالم هو هذه الفلسفة الذّاتيّة التّي تحدّدنا أمامه ؟ تحملنا هذه الوضعيّة التّي يعيشها الإنسان، في علاقته بالفلسفة، إلى الانتباه إلى هذه المفارقة الأساسيّة المتمثّلة في: كيف يمكننا أن نفترض، ضمنا – فلسفة ذاتيّة في الحياة – ما نستبعده علنا – الفلسفة-؟  و هل يعني ذلك أنّنا أمام فلسفتين، فلسفة الفلاسفة و فلسفة العامّيين، لا توجد بينهما أيّ علاقة أو قرابة ؟
 في مفهوم "  فلسفة في الحياة " إحالة إلى الرّؤية التّي يكوّنها كلّ فرد عن العالم التّاريخي الذّي فيه يعيش، و من حيث هي رؤية، تعبّر عن مجموعة من القناعات و القيم و المواقف و الأفكار التّي تحملها الذّات في تجربة الحياة فتشكّل بالتّالي، مبادئ أساسيّة للسّلوك. كلّ فعل إذن، مشروط بهذه الرّؤية الذّاتيّة التّي يسمّيها البعض ّ فلسفة ّ. لكن، ليس لهذه الفلسفة أن تحدّد معالم الفعل الإنساني، إلا لأنّها تستند إلى مطلب في الحقيقة يكسبها مشروعيّة في تحديد حياتنا الذّاتيّة.
 إذا كانت هذه هي ملامح الفلسفة التّي يفترضها كلّ إنسان في حياته اليوميّة، فانّ المفارقة التّي أشرنا إليها سابقا تشتدّ حدّة حين يتّضح أنّ الفلسفة – بألف و لام التّعريف – المستبعدة و المقصاة علنا، تشترك،  مع فلسفة العامّي في الحياة، في نفس الخصائص. فهي، منذ انبثاقها الأوّلي تمثّل رؤية عقليّة متناسقة لكلّية الوجود، يكفّ، بدونها كلّ فعل – كما هو الشّأن في جمهوريّة أفلاطون – عن أن يكون عادلا و فاضلا. و هي، في نفس الوقت، تكشف عن انشدادها الوثيق إلى الحقيقة التّي اقترن البحث الفلسفي بطلبها.
 هذا ما يقودنا، في آخر الأمر، إلى الإقرار بأنّ ليس في استنكار الإنسان العادي للفلسفة، أيّ أساس موضوعي، و أنّ الفلسفة، في الأخير، ليست مشغلا متعاليا عن الحياة و النّاس، تستقلّ به نخبة مميّزة، و انّما هي تعبير عن انشغال كلّ إنسان بالحقيقة والفضيلة. 
على أنّ تأصّل الخطاب الفلسفي في تجربة العاميّ المعيشة – و ذلك دون وعي منه -، لا يجب أن ينسينا، من جهة أخرى، حدود الرّؤية العامّية للعالم، و ذلك لتأسّسها على بداهات موروثة تقصي كلّ تفكير حقيقي يتّخذ الذّات كمنطلق له.
هكذا يصبح جليّا، إذن، أنّ الهدف من درس الفلسفة هو أن نتحقّق من قرابتنا الخفيّة إلى هذه الممارسة، حتّى في أتفه أمور حياتنا، و كذلك أن نتفطّن إلى أنّه لا يمكن أن نرتقي إلى ممارسة فلسفيّة أصيلة دون الإقدام على فعل التّجاوز الضّروري لكلّ ما هو بديهي. و لا يكون هذا التّجاوز إلا بالإقدام على فعل السّؤال: ما الفلسفة ؟ حتّى ننتبه إلى هذا الذّي يحدّد حياتنا كلّ يوم بصفة خفيّة. 

1-  التفلسف: مدخل الفلسفة


«ما هي الفلسفة؟» سؤال وجيه ومباشر، يدخلنا رأسا في مجال الفلسفة إذ يجعلنا نستعمل أداتا من أدواتها ألا وهي السؤال. وجوابا عليه يقول مارتن هايدجر (1889-1976) «عندما نسأل: ما الفلسفة؟… فالهدف هو أن ندخل في الفلسفة، وأن نقيم فيها ونسلك وفق طريقتها، أن نتحرك داخل الفلسفة لا أن ندور من الخارج حولها، أي أن نتفلسف» إذن فالتساؤل عن ماهية الفلسفة هو في حد ذاته فلسفة.
وفي هذا الصدد يمكن القول بأن تحديد ماهية الفلسفة تعترضه عدد من الصعوبات يمكن حصرها اختصارا في ثلاثة أساسية وهي:
1)   أن الفلسفة أكثر المباحث عرضة لتحديدات وتعريفات وتمثلاث وأحكام قبلية عامية ساذجة، منها على سبيل التمثيل دون هم الاستنفاد قولهم بان الفلسفة: غموض، ضبابية، صعبة، إلحاد وخروج عن الدين وكلام فارغ لا معنى له… الخ. لذا يجب علينا أولا أن نطهر أذهاننا من هذه التمثلات العامية الساذجة المجانية إن كنا نتوخى الوقوف على ماهية الفلسفة كما تمثلها الفيلسوف ومريد الفلسفة.
2)   أن الفلسفة لا تعرف بموضوعها ولا بنتائجها، ذلك لأنه كما قال القدماء «الفلسفة أم العلوم»، فهي إذن غير ذات موضوع واحد ووحيد كما هو الشأن بالنسبة لباقي العلوم، بل على العكس  من ذلك تتخذ الفلسفة من كل شيء في الكون مشخصا (ماديا) كان أو مجردا (معنويا) موضوعا لها، تستحضره في ذاتها، تفكر فيه وتنتقده، تستلهمه وتلهمه… كما أن نتائجها غير ذات نفع مادي مباشر كما هو حال نتائج مختلف العلوم، ذلك لأن الفلسفة لا تتوخى المعرفة حبا في المنفعة بل حبا في المعرفة ذاتها. وفي هذا يقول فيتاغوراس (حوالي 572-497 قبل الميلاد) «الفلسفة هي محبة الحكمة لذاتها»، ويقول كارل ياسبيرز (1883-1969) «كل من يمارس الفلسفة يريد أن يحيا من أجل الحقيقة» إذ أن «كرامة الإنسان هي إدراك الحقيقة» حقيقة الإنسان والعالم والله…
3)   أن تعريفات الفلسفة تتعدد بتعدد الفلاسفة أنفسهم ذلك لأن تاريخ الفلسفة يفيدنا بأن الفلاسفة لم يتفقوا قط حول تعريف واحد للفلسفة جامع مانع لها. وهذا الاختلاف ذاته خاصية من خصائص التفكير الفلسفي، إذ أنه أساس خصوبتها واستمرارية عطاءاتها المتمثلة في النظر إلى الإنسان والعالم والله من زوايا وجهات نظر متباينة يمكن مع تعددها وتنوعها الاقتراب أكثر فأكثر من حقيقة الأشياء وبالتالي تكوين رؤية للعالم  أكثر مماثلة له ومشابهة لحقيقته.
واختلاف الفلاسفة لتعريفهم للفلسفة ذاته ناتج عن مجموعة من الأسباب نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
1) أن تعريف الفلسفة مشروط بفلسفة صاحبه: إذ أن كل  تعريف للفلسفة هو بمثابة مرآة تعكس لنا فلسفة صاحبه أو رؤيته الخاصة للإنسان والمجتمع والتاريخ والحياة… وكذا موقفه من كل هذا. وغير خاف عنا أن مثل هذه المواضيع مدعاة لاختلاف وجهات النظر إليها والتموقف منها فمثلا أفلاطون (428-348ق.م) يعرف الفلسفة بأنها «علم الحقائق المطلقة الكامنة وراء ظواهر الأشياء» وهذا التعريف يعكس لنا فلسفة أفلاطون ويسير في  اتساق مع رؤيته للعالم. إذ أن أفلاطون يقسم العالم إلى عالمين: عالم مادي سفلي محسوس(يدرك بواسطة الحواس) وهو الذي نعيش فيه فهو عالم المادة المتحركة دوما والمتغيرة باستمرار، ومن هنا فالحقيقة في هذا العالم منعدمة الوجود وإن وجدت فهي لا مطلقة ولا ثابتة بحكم حركته الدائمة تلك. وهناك عالم مثالي علوي معقول (يدرك بواسطة العقل) وهو عالم المثل العليا الثابتة ثباتا مطلقا، وأعلى مثال في هذا العالم هو مثال الخير الأسمى وهو الله. ومن هنا فالحقيقة موجودة في عالم المثل. فالعالم السفلي عالم الطبيعة (الفيزيقا) والعالم العلوي عالم ما وراء الطبيعة (الميتافيزيقا). ومن هنا فالحقيقة التي تستهدف الفلسفة الحصول عليها لا توجد في ظواهر الأشياء بل وراء هذه الظواهر أي في الجوهر لا في المظهر.
وإذا انتقلنا إلى أرسطو Aristote ( 384-322 ق.م) نجده يعرف الفلسفة بأنها « علم المبادئ والعلل الأولى للوجود »أو«علم الوجود بما هو موجود» وهذا التعريف كذلك ينسجم مع فلسفة أرسطو ويعكس لنا صورة عنها. فأرسطو يرى بان ما من معلول إلا ووراءه علة أي أن لكل نتيجة سببا، فإن نحن أردنا أن نعرف الموجودات كنتيجة متحققة في الكون علينا أن نعرف علة وجودها. والعلل عند أرسطو أربعة وهي: علة مادية وهي ما منه الشيء يكون (كالخشب مثلا)، وعلة صورية وهي ما عليه الشيء يكون (كصورة أو شكل الكرسي مثلا)، وعلة فاعلة وهي ما به الشيء يكون (كالنجار مثلا)، ثم علة غائية وهي ما من أجله الشيء يكون (كالجلوس عليه مثلا). أما علة العلل أو العلة الأولى التي لا علة لها فهي الله ومن هنا كانت الفلسفة عند أرسطو هي العلم بهذه المبادئ أو العلل الأولى للوجود.
2) أن تعريف الفلسفة مشروط بروح عصره وظروف مجتمع صاحبه: وفي هذا قال ماركس (1818-1883) « إن كل فلسفة هي الخلاصة الروحية لعصرها». فالتاريخ الإنساني ليس متماثلا في تجاربه وحضاراته بل لكل شعب ولكل عصر ظروفه ومعطياته الخاصة ونوع إشكالاته المهيمنة فيه… فالعصر اليوناني-مثلا- لا يتطابق مع العصر الوسيط أو عصر النهضة كما أن المجتمع المسيحي غير المجتمع الإسلامي… فإن نحن أخذنا مثال ابن رشد (1126-1198) وجدناه يعرف الفلسفة أو فعل التفلسف قائلا «فعل التفلسف ليس شيئا آخر أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع… فإن الموجودات إنما تدل على الصانع لمعرفة صنعتها، وكلما كانت المعرفة بصنعتها أتم، كانت المعرفة بالصانع أتم». فالفلسفة إذن تأمل في المخلوقات وأخذ العبرة منها من حيث هي دالة على الخالق، وكلما كانت معرفتنا بالمخلوقات دقيقة كلما كانت معرفتنا بالخالق لها دقيقة كذلك. وهنا نجد ابن رشد يسعى جاهدا إلى البرهنة على أن «الحكمة صاحبة الشريعة والأخت الرضيعة» على حد قوله أي الاستدلال على أن الفلسفة والدين معا يستهدفان تحقيق نفس الغاية ألا وهي معرفة الحق الخالق وإثبات وجوده. فإذا كان الدين يحقق هذا الهدف من خلال مطالبتنا بتدبر آيات القرآن فإن الفلسفة تسعى إلى تحقيق نفس الهدف من خلال اعتبار وتدبر آيات الله في خلقه مصداقا لقوله تعالى «ألم ينظروا في ملكوت السماوات والأرض وما خلق الله من شيء؟». وسبب التجاء ابن رشد إلى تعريف الفلسفة باعتبارها وسيلة مثل الدين توصل إلى معرفة الخالق هو أن الإشكال الذي هيمن في المجتمع الإسلامي في العصر الوسيط هو إشكال مدى علاقة الفلسفة (الحكمة) بالدين (الشريعة) وهو ما ينعت بإشكالية العقل والنقل. ومن هنا نستنتج بأن كل فلسفة وبالتالي كل تعريف للفلسفة مرتبط بعصره ومشروط بظروف صاحبه ومعبر عنها.
3) أن تعريف الفلسفة مشروط بتقدم الفكر العلمي في المرحلة التي وضع فيها: إذ أن نشأة الفلسفة ذاتها كانت مرتبطة بالعلوم: فهذا فيتاغوراس يرجع الكون إلى عدد وما اعتبار الفلسفة كبحث عن الحقيقة لذاتها إلا محاكاة لاستدلالات الرياضيات المجردة والمتعالية عن المنفعة المادية والتطبيق المحسوس. وهذا أفلاطون يكتب على باب أكاديميته «لا يدخل علينا من لم يكن رياضيا(أو مهندسا)». وهذا ديكارت (1596-1650) يقول «الفلسفة شجرة جذورها الميتافيزيقيا وجذعها العلوم الطبيعية وأغصانها المتفرعة عن هذا الجذع هي كل العلوم الأخرى… وترجع إلى ثلاثة رئيسية هي: الطب والميكانيكا والأخلاق… وتفترض معرفة كاملة بسائر العلوم». فعلاقة الفلسفة بالعلم إذن علاقة جدلية إذ أن تطور أحدهما يؤدي بالضرورة إلى تطور الآخر والعكس بالعكس. وفي هذا السياق يقول هيجل (1770-1831) «إن الفلسفة تظهر في مساء اليوم الذي تظهر في فجره العلوم» ويقول انجلز (1820-1895) « إن الفلسفة حية دائما في العلوم ولا يمكن أن تنفصل عنها». ومن هذا نستنتج بأن بين العلم والفلسفة إفادة واستفادة متبادلتين.
وإذا كان الفلاسفة قد اختلفوا في تعريفهم للفلسفة فهم كذلك اختلفوا في طرق تفكيرهم فيها وإنتاجهم لها وتعبيرهم عنها: فمثلا سقراط (حوالي 469-399ق.م) يتخذ من الحوار التوليدي أسلوبا في التفكير، في حين أن أرسطو يعتمد على العرض المنطقي الصارم أما نتشيه (1844-1900) فيلجأ إلى اللغة الشاعرية والبلاغة والرمز، في الوقت الذي يرتكز فيه اسبينوزا (1632-1677) على الاستدلال شبه الرياضي…الخ.
ولكن إذا كانت تعاريف الفلاسفة للفلسفة متباينة وكذلك هو شأن طرق تفكيرهم وعرضهم لفلسفاتهم، أفلا توجد بعض الضوابط والخصائص الثابتة في كل فلسفة؟ أليس هناك قاسم مشترك بين جل هذه الفلسفات حتى لا نقول كلها ؟