a

الفلسفة من العصر الوسيط الى الفترة المعاصرة



فلسفة العصر الوسيط

ينظر بعض مؤرخي ‏الفلسفة الأوروبية إلى العصر الوسيط على أنه يمثل المدة الممتدة بين القرن التاسع والرابع عشر أو الخامس عشر، فيما يعتبر آخرون الفترة الممتدة من القرن الأول إلى القرن التاسع، هي التي تمثل دور التأسيس لفلسفة العصر الوسيط، لان هناك اتصالاً عضوياً بين الإنتاج الفلسفي في تلك الحقبة والقرون التالية لها حتى القرن الثالث عشر. وهو ما تدل عليه السمات المشتركة في الأعمال الفلسفية المصنفة في هذه المدة. في هذا الضوء يمكن أن نلاحظ فترتين تتداخل إحداهما بالأخرى في هذا العصر، يطلق‏ على الأولى منهما فترة (آباء الكنيسة) بينما يطلق ‏على الثانية (الفلسفة المدرسية). وفيما يلي تعريف موجز بكل واحدة منهما:
1.أباء الكنيسة
كان التفكير مقتصرا، في هذه الفترة، على آباء الكنيسة، الذين حاولوا أن يدافعوا عن الدين المسيحي ضد الغارات العنيفة التي شنها الفلاسفة الأفلاطونيون المحدثون. وقد ظهر في هذه الفترة كلمنت الاسكندري (150 ـ 217 م) الذي اعتنق المسيحية منذ صباه، وحاول أن يرفع الإيمان المسيحي إلى مستوى المعرفة اليونانية اعتماداً على أفلاطون وأرسطو والرواقية وفيلون، نظراً لرغبته في بناء فلسفة مسيحية لها نسقها الداخلي المحكم. وتلميذه اوريجين (185 ـ 253 م) الذي ترهب وأسس مكتبة ومدرسة، ودافع عن المسيحية ضد سلسوس الذي طالب بفصلها عن اليهودية نظراً للخلاف الجوهري بين الديانتين  وقام بنشرة نقدية للعهد القديم وفسره تفسيراً رمزياً، وكتب عدة مؤلفات حاول التوفيق فيها بين المسيحية والفلسفة اليونانية خاصة الأفلاطونية.
إن أعظم آباء الكنيسة على الإطلاق هو القديس أوغسطين(354 ـ 430م)، ذلك انه هو الذي أعطى المسيحية نسقها الكامل، ولم تزل الفلسفة بعده تستقي من أعماله، فان الفلاسفة الذين جاءوا من بعده إما أعادوا صياغة فلسفته أو عدلوها بما أضافوا إليها من تأويلات وعناصر جديدة، وظلت فلسفته تسود الفكرالكنسي، وخاصة عند الفرنسيسكان، حتى مجي‏ء توما الاكويني، فبدأت وقتئذ بالاضمحلال.
ولد أوغسطين في (طاغشت) من أعمال نوميديا (الجزائر اليوم)، ودرس في مدرسة هذه المدينة أولا، ثم انتقل منها إلى مدارس أخرى في قرطاجنة وروما وميلانو، ارتد عن المسيحية في صباه، وتنقل بين الثقافة اليونانية والثقافة المانوية والثقافة اللاتينية. اختلف إلى محاضرات الأسقف امبروز (333 ـ 397م) وحلقات الأفلاطونيين المحدثين. كتب في اعترافاته سنة 400 م: أن التعاليم الأفلاطونية مهدت لاعتناقه المسيحية، وان الأفلاطونية فلسفة بها كل المبادئ المسيحية ولم ير الفارق بين الاثنين إلا بعد اعتناقه للمسيحية بزمن طويل. جعل موضوع الإيمان والعقل احد المحاور الرئيسة في حياته، فهو الذي وضع مبدأ (أؤمن كي أعقل) الذي استمر حتى القديس (انسلم) في القرن الحادي عشر. عاش راهباً كثير التنقل، يكتب ويراسل ويدخل في صراعات مع المانوية وغيرهم.

2 ـ الفلسفة المدرسية   :



تبدأ فترة الفلسفة المدرسية (السكولائية) بالقرن التاسع وتتواصل إلى القرن الخامس عشر تقريباً، أي حتى عصر النهضة. وإنما تعرف هذه الفلسفة بالمدرسية لأنها كانت تُعلَّم في المدارس، وعلى هذا فان تسمية مَدْرَسي تطلق على كل من يُدَرِّس في المدارس آنئذ، أو مَن حصّل جميع المعارف التي كانت تدرس في تلك المدارس. وهي مدارس كنسية تقام إما داخل الأديرة وهي مدارس رهبان، أو خارج الأديرة وهي مدارس أسقفية لإعداد رجال الدين غير المترهبين.
تخطت الفلسفة المدرسية عدة مراحل، وقعت المرحلة الأولى منها ما بين القرن التاسع حتى القرن الثاني عشر، حيثُ ازدادت في‏هذه الحقبة المدارس وانتظم التعليم، فشهد القرن التاسع نشاطاً واسعاً برز فيه (جون سكوت اريجين)، إلا أن هذا النشاط انكمش في القرن العاشر بفعل بعض الاضطرابات، ثم استؤنف النشاط في القرن التالي. وكانت البضاعة العلمية الأساسية للاّهوتيين المدرسيين هي الآثار التي تركها القديس أوغسطين وبعض الآراء الأفلاطونية.
وكان القديس الايطالي انسلم (1033 _ 1109م) من أكبر الأسماء التي عرفتها هذه المرحلة، فقد اشتهر بدليله الانطولوجي ‏على وجود الله، وجمع في مؤلفاته بين الإيمان بالأناجيل والتصديق بفلسفة أوغسطين، ويقوم منهجه على تعقّل الإيمان أو كما يقول هو: (اني أؤمن كي أعقل)
تمخضت المرحلة الثانية عن ظهور أعظم فيلسوف لاهوتي في تاريخ الكنيسة، وهو القديس توما الإكويني (1224 ـ 1274م) مؤسس الأرسطوطالية المسيحية، التي نقض بها المذهب الأوغسطيني، الذي ظل مهيمناً على الفلسفة الأوروبية عدة قرون.ترك الإكويني ثمانية وتسعين كتاباً، يصل بعضها إلى ثلاثة آلاف صحيفة.
نشأت حركة عقب وفاته تناوئ فلسفته وتتهمه، إلا أن فلسفته التي أصبحت تسمى التوماوية تنامى أنصارها بالتدريج، حتى إن البابا أعلن في سنة 1318م أن التوماوية منحة إلهية وأن الإكويني قديس. وقد وجد الكاثوليك في التوماوية أسلحة فلسفية ينازلون بها الفلسفات الحديثة واللاأدرية.

3 ـ الفلسفة الاسمية :


انتهت الفلسفة المدرسية في مرحلتها الأخيرة في القرن الرابع عشر إلى ما يسمى بالاسمية، وهي تيار فلسفي اخذ في نقد المجردات وادعى أنها ليست إلا أسماء أو ألفاظا جوفاء، واهتم بالاعتماد على المشاهدة والتجربة، وقد بلغ النزاع بين الاسميين والواقعيين ذروته في هذه الفترة، وامتازت هذه المرحلة بظهور التصوف .
وكان وليم أوف اوكام (1295 _ 1349 م) من ابرز الفلاسفة الذين بشروا بالاسمية. كان من الفرنسيسكان ولكنه تحرر من فلسفتهم، بل ومن كل فلسفة مدرسية، وباشر نقد الفلسفة والعلم القديم، ودعا للفصل بينها وبين الدين، والفصل بين السلطتين الدينية والمدنية.
من هنا اعتبره بعض الباحثين مؤسس الفكر الحديث، فان (جون لوك) تعرض لملاحقة الكنيسة، ففي سنة 1324 م استدعاه البابا بمدينة افينيون بفرنسا للتحقيق معه في تهم منافية للدين منسوبة إليه، واستمر التحقيق معه أربع سنوات.
أفضت فلسفة الكنيسة المدرسية بالعقل الغربي إلى الاسمية التي قادته إلى الحسية وإنكار كل شي‏ء لا تناله الحواس الخمس، بما في ذلك الله وكل ما وراء الطبيعة.
لقد عمل آباء الكنيسة على تأويل الفكر الفلسفي في ضوء المعتقدات الكنسية المحرفة، واقتفى أثرهم أتباع الفلسفة المدرسية، فلم يستسغ العقل آراءهم، ولم تتسق هذه الآراء مع منطق الفطرة، فضلاً عن أنها لم تروِ ظمأ الوجدان، فتحرر العقل من تأويلاتها المبهمة وراح يفتش له عن نسق عَقدي آخر.


الفلسفة الحديثة
1-    عصر النهضة و فرانسيس بيكون.
يحدد بعض الباحثين عصر النهضة على أساس انه حقبة من تاريخ أوروبا الغربية، تمتد من سنة 1300 م إلى سنة 1600 م تقريباً، ومهما يكن تاريخ هذه الحقبة فإنها تمثل حلقة الاتصال بين العصر الوسيط والعصور الحديثة، وهو العصر الذي أضحى بوابة لدخول أوروبا في حياتها الحديثة ومغادرتها نهائياً لتسلط الكنيسة.
وكانت النهضة بوصفها حركة فكرية إحيائية قد بدأت في ايطاليا ثم امتدت منها إلى شتى أنحاء أوروبا، ففي عصر النهضة بدأت حركة مزدوجة تتمثل في العودة إلى التراث اليوناني والتحرر من الفلسفة الكنسية المدرسية، عَبْرَ إحياء ذلك التراث وتحقيقه وتفسيره تفسيراً يبتعد به عن النزعة التأويلية لفلسفة العصر الوسيط. وفي الوقت نفسه بدأت في الانفصال عن التراث اليوناني كما تبلور ذلك تدريجياً في موقف مناهض لأرسطو. فتمت إعادة قراءة التراث اليوناني، وازدهار العلوم الطبيعية والرياضيات، والتبشير بفلسفة (فرنسيس بيكون) التي تدعو إلى الملاحظة والتجريب، ازدادت الانتقادات الموجهة لفلسفة أرسطو، فمثلا انتقد لورنزو (1407 _ 1457 م) في ايطاليا فلسفة أرسطو الفاسدة، كذلك انتقد بتريز(1529 _ 1557 م) تناقضات أرسطو مستخلصاً ضرورة الإقلاع عن تدريس مصنفاته. أما كامبانيلا (1568 _ 1639 م) فقد أبان عن نزعة أفلاطونية وانتقد تصنيف أرسطو للكائنات. وفي فرنسا انتقد راموس (1515 _ 1572 م) فلسفة أرسطو في رسالته المقدمة بعنوان "كل ما قاله أرسطو وهم" وانتقد منطقه على وجه الخصوص لما فيه من تناقضات. وقد كان فرانسيس بيكون أهم أعلام الفلسفة في العصر الوسيط.
ولد فرنسيس بيكون في سنة 1561م في إحدى ضواحي لندن وتوفي سنة 1626م، وهو الرائد الأول في الفلسفة الأوروبية للمنطق الاستقرائي، وواضع الأسس المنطقية للمذهب التجريبي.
كانت الاكتشافات العلمية تجري عن طريق الصدفة أو المحاولة والخطأ، حتى جاء بيكون فوضع أسس منهج البحث العلمي، الذي يقود الباحث إلى اكتشاف القوانين الطبيعية.لقد حاول بيكون التعويل على الطريقة الاستقرائية ونبذ الطريقة القياسية الموروثة من أرسطو. فقد كان من اكبر المناهضين لأرسطو، حيثُ ابرز نقائض المنطق الصوري، ودعا إلى ضرورة الاعتماد على التجربة، لأنه يرى أن العلم الصحيح هو القائم‏ على التجربة والملاحظة. وكان كتابه "الاورغانون الجديد" او "العلامات الصادقة لتأويل الطبيعة"  الذي بدأ يعمل فيه منذ سنة 1608م ثم عدَّل فيه 12 مرة، ونشره نشرة نهائية سنة 1620م، من أهم الأعمال التي فتحت الطريق لإصلاح العلوم باعتماد المنهج التجريبي. ومن طريف ما يؤثر عنه أن آخر عبارة خطها قلمه وهو على سرير الموت هي: "لقد نجحت التجربة نجاحاً عظيما".


2-    ديكارت وبداية العقلانية الحديثة.
يرى بعض الباحثين أن الكوجيتو الديكارتي "أنا أفكر إذن  أنا موجود" هو نقطة بداية الوعي الأوروبي العقلاني الحديث. لقد استهدفت فلسفة ديكارت تحقيق ثلاثة أمور:
1 ـ إيجاد علم يقيني فيه من اليقين بقدر ما في العلوم الرياضية، بدلاً من العلم الموروث من الفلسفة المدرسية.
2 ـ تطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقاً عملياً يمكّن الناس "من أن يصيروا بمثابة سادة ومالكين للطبيعة".
3 ـ تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين الموجود الأعلى أي الله، وذلك بإيجاد ميتافيزيقا تتكفل بحل المشاكل القائمة بين الدين والعلم.
وتتحقق الغاية الأولى بإيجاد منهج علمي دقيق، وهذا ما عرضه ديكارت في كتابه: (مقال في المنهج) و(قواعد لهداية العقل). ويقوم هذا المنهج على أربع قواعد، أهمها هي القاعدة الأولى التي تعبر عن الشك الذي سينعت بالشك الديكارتي و (الكوجيتو الديكارتي)، وهو ما عبر عنه ديكارت في التأمل الأول من تأملاته بقوله: "مضت عدة سنوات منذ أن لاحظت أن كثيراً من الأشياء الباطلة، كنت اعتقد إبان شبابي أنها صحيحة، ولاحظت أن الشك يعتور كل ما أقمته على أساس هذه الأمور الباطلة، وانه لابد أن تأتي لحظة في حياتي اشعر فيها بان كل شيء يجب أن يقلب رأساً على عقب تماماً، وان ابدأ من أساس جديد إذا شئت أن أقرر شيئاً راسخاً وباقياً". ويستمر ديكارت في‏ توكيد هذا الشك فيقول: "إني افترض إذن أن كل الأمور التي أشاهدها هي باطلة، وأقنع نفسي بأنه لم يوجد شي‏ء مما تمثله لي ذاكرتي المليئة بالأكاذيب، وأتصور انه لا يوجد عندي أي حسّ، واعتقد أن الجسم والشكل والامتداد والحركة والمكان ليست إلا تخيلات من صنع عقلي، فماذا عسى أن يعدّ حقيقياً؟ ربما انه لا شي‏ء في العالم يقيني. لكن من يدريني لعل هناك شيئاً مختلفاً عن تلك الأشياء التي حسبتها غير يقينية، شيئاً لا يمكن ابداً الشك فيه؟ ألا يوجد اله أو قوة أخرى تصنع في عقلي هذه الأفكار؟ يجب عليّ أن استنتج وأتيقن أن هذه القضية أنا كائن، أنا موجود هي قضية صحيحة بالضرورة في كل مرة انطلق بها أو أتصورها في عقلي".
ولد رينيه ديكارت في فرنسا سنة 1596م وتوفي سنة 1650 م، و يعد رائد الفلسفة العقلانية في العصر الحديث، كان في الوقت نفسه رياضياً ممتازاً إذ ابتكر الهندسة التحليلية.
إن الحاجة إلى تطور علوم طبيعية عقلانية، كانت تصطدم بشكل حاد، مع السلطة المعرفية للكنيسة. وهذا التناقض بين سلطة العقل وسلطة الكنيسة، في مجال العلوم الطبيعية، هو الذي عبرت عنه تاريخيا فلسفة ديكارت. إن الكوجيطو الديكارتي الشهير: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ليست له من دلالة فلسفية، سوى الإدانة لمبدأ السلطة المعرفية للكنيسة في مجال العلوم الطبيعية. فديكارت ذهب في عدائه لسلطة الكنيسة، إلى حد اعتبار أن الموجود... وأن الواقع، هو فقط ما أتوصل إليه أنا، كنتيجة، عن طريق التفكير العقلاني، المستقل عن كل سلطة معرفية خارجية.
3-    فلسفة عصر الأنوار.
التنوير تيار عقلي ظهر في الفلسفة الأوروبية وبلغت الدعوة إليه ذروتها في القرن الثامن عشر، أما نقطة بدايته فهي موضع خلاف بين مؤرخي الفلسفة، مثلما هو الموقف من تاريخ الأفكار الذي يميل الباحثون فيه على الدوام إلى التفتيش عن بدايات ترتد إلى عصور تسبق تداول تلك الأفكار وشيوعها في الوسط الثقافي.
ومهما يكن فالرأي الشائع والمألوف أن القرن الثامن عشر هو عصر التنوير، وهو عصر من صنع الفلاسفة. وقد تأثر التنوير بمفكرين عظيمين هما: لوك (1632 _ 1704 م) ونيوتن (1634 ـ 1727 م) اللذين عارضا ديكارت.
بحث لوك في أصل الأفكار في كتابه "محاولة في الإدراك الإنساني" فردها إلى معطيات التجربة الحسية، فالعقل في الأصل كلوح مصقول لم ينقش فيه شي‏ء، وان التجربة هي التي تنقش فيه المعاني والمبادئ جميعاً. أما نيوتن فقد كان لمنهجه العلمي ولمكتشفاته اثر في فلاسفة التنوير، وكان اكتشافه للجاذبية مؤيداً للمذهب الآلي وموطداً للثقة في المنهج الرياضي.
وكان ديدرو (1713 ـ 1784م ) قد أعلن عن رفض الميتافيزيقيا التقليدية وألح على تبني عقلانية المنهج العلمي، وكانت روح التنوير شديدة العداء للكنيسة، وللسلطة متمثلة بالدولة، وللخرافة والجهل والفقر، وغالى التنويريون في دعوتهم للعودة بالإنسان إلى الطبيعة حتى كان بعضهم من دعاة البدائية.
ويمكن التعرف على مجموعة سمات عامة لفلسفة التنوير في كل البلدان الأوروبية، مثل اعتبار أن للعقل سلطانً على كل شي‏ء،  وانه مقياس لصحة العقائد، وأساس للعلم، ووسيلة للقضاء على الخرافة والجهل والخوف، واتجاه نحو العالم الحسي، فأصبح العقل والطبيعة أساسين للوحي القديم.
4-    الفلسفة الألمانية:
تميزت الفلسفة الألمانية عن مثيلاتها في القارة الأوروبية منذ النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بعد بروز إمانويل كانط(1724 _ 1804م) الذي أصبح "أعظم فلاسفة العصر الحديث" كما يقول عبد الرحمن بدوي، فريدريك هيغل(1770 ـ 1831م) الذي تلونت بديالكتيكه أوسع الفلسفات السياسية في العصر الحديث في فترة لاحقة، وهي (المادية الديالكتيكية) التي صاغها كارل ماركس(1818 ـ 1883م) مؤسس الاشتراكية العلمية.
لقد اتسمت الفلسفة الألمانية وقتئذ بسمات تميزها عن الفكر الفلسفي في عموم أوروبا، فبينما طغت بين الفلاسفة الانجليز النزعة التجريبية الحسية، تميزت الفلسفة الألمانية بنزعتها العقلية والروحية، وبالعودة إلى الأنا كنقطة ابتداء في البحث الفلسفي.
ومنذ ذلك التاريخ اصطبغت التجربة الفلسفية في ألمانيا بلون خاص نحا بها منحى آخر لا يتطابق مع ما عليه تيار الفلسفة خارج ألمانيا، وصارت بعض مقولات الفلاسفة الألمان ذات دور تأسيسي لغير واحد من الأنساق الفلسفية الراهنة في فرنسا وبريطانيا بل وفي الغرب عامة.
كانط:
ولد كانط في بروسيا الشرقية (ألمانيا الشرقية) وتلقى تعليمه بالمدرسة الثانوية في المدينة، ثم بجامعاتها التي أصبح محاضراً فيها ثم أستاذاً ثم مديراً لها، وكانت حياته العقلية هي كل حياته، فلقد استمر يُدرِّس الفلسفة 42 سنة، وعاش 80 سنة قضاها كلها في مدينة واحدة لم يبرحها، وكانت حياته منظمة، وكان أول فيلسوف يقضى حياته مدرساً للفلسفة.
ويعد الفيلسوف كانط قمة عصر التنوير بلا منازع، وهو ما تلخصه مقالته التي نشرها سنة 1784م بعنوان (جواب عن سؤال: ما هو التنوير؟) والتي جاء فيها: التنوير هجرة الإنسان عن القصور، والقصور هو عجز الإنسان عن الإفادة من عقله من غير معونة من الآخرين. كما أن القصور سببه الإنسان ذاته، هذا إذا لم يكن سببه نقصاً في العقل وإنما نقصاً في التصميم والجرأة على استخدام العقل من غير معونة من الآخرين. كن جريئاً في استخدام عقلك، هذا هو شعار التنوير..انه يطيب لنا أن يكون الكتاب بديلاً عن عقلي، والكاهن بديلاً عن وعيي، والطبيب مرشداً لما ينبغي تناوله من طعام. وليس ثمة مبرر للتفكير إذا كان في مقدوري شراؤه، فالآخر كفيل بتوفير جهدي
كتب كانط عدة مؤلفات، من أشهرها: "نقد العقل الخالص أو النظري" (1781م)، "نقد العقل العملي" (1788م)، "نقد الحكم الجمالي" (1790م)، "الدين في حدود العقل الخالص" (1793م)، "ميتافيزيقيا الأخلاق" (1797م) في جزأين، الأول هو: "المبادئ الميتافيزيقية للحق". والثاني: "المبادئ الميتافيزيقية للفضيلة".
هيغل:
ولد هيغل بشتوتغارت في ألمانيا، وكان تلميذاً لشلّنغ مع انه كان يكبره بخمس سنوات. يعد من أعظم الفلاسفة تأثيراً في تاريخ الفلسفة الحديثة، إذ لا يمكن أن نفهم: الوجودية، والماركسية، والبراجماتية، والفلسفة التحليلية، والنزعة النقدية، من دون أن نفهم هيغل وتأثيره فيها جميعاً بالسلب والإيجاب.
كتب عدة مؤلفات اتسم أسلوبه فيها بالتعقيد والإبهام وكثرة استخدام المصطلحات، أولها: "فينومنولوجيا الذهن" (1807م) وهو وصف للظواهر الذهنية وآثارها في حياة الإنسان، (المنطق) في ثلاثة مجلدات (1812 _ 1816م) وهو عرض للمعاني الأساسية الميتافيزيقية والمنطقية، ولذلك صار حجر الزاوية في بناء مذهبه، بينما عالجت كتبه الأخرى أقسام المذهب، "موسوعة العلوم الفلسفية" (1817م)، "دروس في فلسفة الدين"، "تاريخ الفلسفة"، "فلسفة الجمال"، نُشرت الثلاثة الأخيرة بعد وفاته.

الفلسفة المعاصرة
1-    مذاهب القرن التاسع عشر.
اتسم القرن التاسع عشر بالسعي لبناء نظم فلسفية، أي العمل على التأليف والتركيب بين الأفكار، فخرجت مذاهب بعض الفلاسفة عبر مزج معطيات فلسفية سالفة. كما تأثرت المذاهب الفلسفية بالعلم مثلما نجد في المذهب المادي والوضعي.
ففي ألمانيا تبنى المادية فويرباخ (1804 _ 1872م)، وموليشُط (1822 _ 1893م)، وبوخنر (1824 _ 1899م)، وكارل فوجت (1817 _ 1895م)
اما في فرنسا فقد أسس أوجست كونت (1798 _ 1857م) الفلسفة الوضعية، وتبعه جون ستيوارت مل (1806 _ 1873م) في انجلترا، وارنست لاس (1837 _ 1885م) ويودل (1848 _ 1914م) في المانيا. وقد رأى هؤلاء جميعاً أن الفلسفة ليست إلاّ تجميعاً لنتائج العلم.
وجرى تأييد المذهب المادي الوضعي تأييداً حاسماً بمذهب تشالرز دارون (1809-   1882م) العالم الانجليزي الذي فسر تطور أنواع الكائنات الحية في كتابه "في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي". وصارت فكرة التطور مذهباً شاملاً عاماً، وأدت إلى ظهور المذهب التطوري الذي دافع عنه توماس هنري هكسلي ( (1825 _ 1895، وهربرت اسبنسر (1820 _ 1903م)، بينما نشره في مختلف طبقات القراء الالماني ارنست هيغل (1834 _ 1919م)
بالإضافة إلى ذلك فان القرن التاسع عشر شهد اتجاهاً لاعقلياً في الفلسفة الأوروبية يعارض المذهب العقلي الهيغلي، وممثل هذا الاتجاه الفيلسوف الألماني شوبنهور (1788 _1860م) الذي كان يرى أن المطلق ليس العقل بل إرادة عمياء ولا عقلية. والى جانب شوبنهور ظهر الفيلسوف الدانماركي كيركجارد (1813_1855م) ليدفع إلى مدى ابعد الهجوم على المذهب العقلي. وفي مرحلة تالية ظهر نيتشه (1844_1900م) الذي دعا لمراجعة كل القيم ونادى بعبادة الرجل العظيم.
ومن أبرز المذاهب التي ظهرت في القرن التاسع عشر البراغماتية أو الذرائعية. وقد هيمنت البراغماتية على الحياة العقلية مدة طويلة في الولايات المتحدة الأمريكية، وهي فلسفة تتخذ من العمل مقياساً مطلقاً، وقد وردت هذه الفكرة للمرة الأولى في مقال للفيلسوف الأمريكي تشارلز ساندرز بيرس في سنة 1878م بعنوان: "كيف نوضح أفكارنا". ولم تتضح أهمية هذا المقال إلاّ بعد أن كشف عنه وليم جيمس في محاضراته عن البراغماتية سنة 1898م "المفاهيم الفلسفية والنتائج العملية".
واقترنت البراغماتية في الأذهان باسم وليم جيمس (1843 _ 1910م) وهو أكبر دعاتها في أمريكا، وأحد مؤسسي علم النفس الحديث، ويرى جيمس أن معيار صدق القضية هو نتائجها العملية، وليس مطابقتها للواقع، ومعيار الحقيقة هو نجاح الفكرة عملياً، فيقول: "الفكرة صادقة إذا كانت تعمل"، ويقول: "الفكرة صادقة إذا كانت لها نتائج عملية تقودنا إلى الموضوع المقصود بها إدراكه". ويتابع "القضية صادقة إذا كانت تعطينا أكبر كم من الرضا، بما في ذلك إرضاء الذوق… وان أهم خاصية للحقيقة هي التحقق العملي".
ويذهب الفيلسوف الامريكي (ديوي) إلى أن تحديد مفهوم ما أي فكرة إنما هو بأنها أداة فعل. و يقول: "النظرية أداة أو آلة للتأثير في التجربة وتبديلها، والمعرفة النظرية وسيلة للسيطرة على المواقف الشاذة، أو وسيلة لزيادة قيمة التجارب السابقة من حيث دلالاتها المباشرة"
وينجم عن ربط الحقيقة وصدق الفكرة بالنتائج العملية والرضا والمصلحة نسبية الحقيقة وتعددها، تبعاً لتنوع مصالح الأفراد. وهذا يعني أن البراغماتية تتعارض مع المذهب العقلي الذي يعتقد أن الحقيقة وصدق الفكرة مرهون بكشفها عن الواقع ومطابقتها للحقائق الخارجية. ويبدو أن البراغماتية تجسد أحدى تجليات الوعي حيث أضحت الحقيقة في هذا الوعي تدور مدار المصلحة.
2-    مذاهب القرن العشرين
اتسم النصف الأول من هذا القرن بغزارة الإنتاج الفلسفي، ففي ايطاليا وحدها كان عدد المجلات الفلسفية المتخصصة لا يقل عن الثلاثين في عام 1946م، كما أن قائمة غير كاملة للكتب الفلسفية، أصدرها المعهد الدولي للفلسفة اشتملت على أكثر من سبعة عشر ألفاً من المنشورات في النصف الأول من العام 1938 م.
ويمارس الفلاسفة الغربيون في القرن العشرين طرائق التحليل أكثر من أية طريقة أخرى، مخالفين بذلك اتجاه الفلاسفة في القرن التاسع عشر الذي كان يعلو فيه التركيب والمزج على التحليل.
وقد تميزت هذه الحقبة بكثافة الاتصالات بين الفلاسفة من شتى الاتجاهات، وتعدد المؤتمرات الفلسفية الدولية واللقاءات ذات الموضوعات المتخصصة التي تتناول مذهباً بعينه أو موضوعاً خاصاً.
كذلك أسست مجلات للمذاهب، فمثلاً ظهرت للتوماوية وحدها حوالي عشرين مجلة متخصصة.
من هنا يمكن القول إن هذه الفترة من أخصب فترات الإنتاج الفلسفي في الغرب، وان عدداً كبيراً من فلاسفة القرن العشرين سوف يترك آثاراً دائمة في تاريخ الفكر الفلسفي.
ومنذ بداية هذا القرن تبلورت بالتدريج بعض الاتجاهات والمناهج والمدارس التي سادت التفكير الفلسفي في الغرب، وتحول بعضها إلى تيار واسع نفذ إلى كافة ميادين الحياة الثقافية هناك، بل تجاوز حدود أوروبا متوغلاً في شعوب أخرى.
وفيما يلي إشارات سريعة إلى ابرز تلك المناهج والمدارس والاتجاهات:
أ ـ المنطق الرياضي:
أهملت الفلسفة الأوروبية الحديثة المنطق الصوري حتى توارى في زوايا النسيان، فلم يكن بين الفلاسفة في أوروبا الحديثة إِلاّ واحد هو ليبنتز، كان منطقياً مرموقاً، أما الآخرون فكانوا يجهلون أسس المنطق الصوري.
وفي عام 1847م ظهر كتابان في المنطق الرياضي الجديد، كل منهما مستقل عن الآخر، هما أول ما نشر في ذلك، الأول للرياضي الانجليزي مورجان (1806 ـ 1878م)، والثاني لمواطنه الرياضي جورج بول (1815 ـ 1864م). واستمر في الاتجاه نفسه ارنست شرودر(1841 ـ 1902م)، وبيانو (1858 ـ 1932م)، وفريجه (1848 ـ 1925م) الذي كان منطقياً مرموقاً.
بيد أن هذا المنطق ظل مجهولاً عند معظم الفلاسفة، ولم تتجه الفلسفة الانجليزية للاهتمام به إِلاّ بعد نشر برتراند رسل لكتابه "أسس الرياضيات" في عام 1903م، وذلك إثر مقابلته مع الرياضي بيانو عام 1900م. وفي  1913م ظهر الكتاب الضخم "مبادئ الرياضيات" الذي اشترك في تأليفه رسل مع وايتهد، وهو المؤلف الذي أسرع من خطا  تطور المنطق الرياضي.
وقد أثر المنطق الرياضي تأثيراً مزدوجاً على الفلسفة، فمن ناحية ظهر انه أداة دقيقة في تحليل المفاهيم والبراهين، وانه أداة يمكن تطبيقها على ميادين أخرى غير الرياضيات. ومن ناحية أخرى أدى المنطق الرياضي إلى إلقاء الضوء على مشكلات عتيقة، مثل مشكلة الثالث المرفوع وغيرها.
ب ـ الظاهراتية (الفنومنولوجيا)
يقوم المنهج الفنومنولوجي في أساسه على تحليل جوهر المعطى أو الظاهرة. وهو يمثل الاتجاه الثاني بعد المنطق الرياضي الذي ظهر في الفكر الأوروبي وساهم في قطع الجسور مع اتجاهات القرن التاسع. والاختلاف الرئيس بين هذا المنهج والمنطق الرياضي يتمثل في أن المنهج الفنومنولوجي لا يستخدم الاستنباط على الإطلاق، ولا يهتم إِلاّ قليلاً باللغة، ولا يقوم بتحليل الوقائع التجريبية بل بتحليل الماهيات.
ومؤسس هذا المنهج هو ادموند هوسرل(1859 _ 1938م) الذي كان قد درس الرياضيات والفلسفة في لايبتزيج وبرلين وفينا، قبل أن يصبح فيلسوفاً يطبع عصره بطابعه المنهجي الخاص. ولا يخلو فكر هوسرل من اللبس أحياناً والغموض أحياناً أخرى، لذلك قد لا يكون ممكناً تقديم عرضٍ موجزٍ يفصح عن تمام أبعاده.
ج ـ الوضعية المنطقية:
اسم أطلقه بلومبرج وفايجل عام 1931م على الأفكار الفلسفية الصادرة عن الجماعة التي أطلقت على نفسها (جماعة فينا). وقد أنشأت هذه الجماعة في أوائل العشرينات من القرن العشرين حلقةً للمناقشة غير رسمية بجامعة فينا، يتزعمها موريس شليك(1882 ـ 1936م) أستاذ كرسي العلوم الاستقرائية في هذه الجامعة.
ومن أعضاء هذه الجماعة البارزين رودلف كارناب(1891 ـ 1970م)، وفردريك فايزمان، وكلاهما تعلم تعليماً رياضياً في بداية الأمر، وكارل بوبر(1902 ـ 1991م). وانخرط في هذه الجماعة مجموعة من العلماء توزعت اهتماماتهم العلمية في عدة تخصصات، فمثلاً كان(هانزهان) و(كارل مينجر) و(كورت جودل) من علماء الرياضيات، بينما كان (أوتونيورات) عالم اجتماع، و(فكتور كرافت) مؤرخاً، و(فليكس كوفمان) رجل قانون، و(فيليب فرانك) أستاذ فيزياء بجامعة براغ. أما سبب لقاء هذه الجماعة في حلقة معرفية مشتركة، فيعود الى توحدها في هم مشترك بينها، يتمثل في الاهتمام بالمنهج كمدخل أساسي، والسعي لتأسيس الفلسفة العلمية أو التنظير للفلسفة علمياً من خلال ممارسة التحليل المنطقي، فضلاً عن السعي لتوحيد العلوم جميعا
والتأثير المباشر على فلسفة جماعة فينا جاء من كتابات هيوم، ومل، وارنست ماخ، وغيرهم، لكن التأثير الأكبر والأخطر جاء مباشرة من رسالة فتجنشتين(1889 ـ 1951م) "رسالة منطقية فلسفية" التي صدرت بالألمانية عام 1921م، وترجمت إلى الانكليزية عام 1922م.
وفي عام 1929م أصدرت جماعة فينا مؤلفاً بعنوان "حلقة فينا تصورها العلمي للعالم" أعلنت فيه عن أهدافها ومنهجها. وبعد ذلك بعام ابتاعت الجماعة صحيفة (حوليات الفلسفة) وأطلقت عليها اسماً جديداً هو مجلة (المعرفة) التي اشرف على تحريرها (كارناب) و(رايشنباخ)، واخذت تنشر أبحاث الوضعية المنطقية.
وبعد اشتهار الوضعية المنطقية عالمياً انفرط عقد جماعة فينا، ففي عام 1930م صار كارناب استاذاً بجامعة براغ، ورحل هربرت فايجل الى الولايات المتحدة، ومات هانزهان عام 1934، وقُتِل شليك على يد أحد تلامذته عام 1936م. ثم حضرت السلطات النازية نشاط الجماعة عام 1938م، فتوزع بقية أعضائها بين أوروبا الغربية والولايات المتحدة، وأضحى كل عضو منهم يعمل بمفرده.
وينبغي الإشارة إلى أن الفلاسفة البارزين في الوضعية المنطقية كلهم من الألمان، لكن بعد أن ذاعت دعوتها تجاوب معها بعض الفلاسفة في أوروبا والولايات المتحدة، خاصة في بريطانيا، فقد تبنى أفكارها (ألفريد جويز آير) الذي اشتهر بوضعه كتاب "اللغة والصدق والمنطق" في عام 1926م، والذي كان من أكثر الكتب رواجاً بين الناطقين بالانكليزية وأشدها تأثيراً في الفكر الفلسفي في بريطانيا، سار فيه على خطى رسل وفتجنشتاين وجماعة فينا، ولكنه خرج على الشكل العام للوضعية المنطقية وأدخل عليه بعض عناصر التراث التجريبي البريطاني عن طريق باركلي وهيوم.
د ـ الوجودية:
تطلق الوجودية على اتجاهات فلسفية متعددة، تتفق على أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يسبق وجودُه ماهيَّته، وان الإنسان لا يمكن فهمه إلا في المواقف التي يختارها لنفسه.
وتندرج في الوجودية اتجاهات يقول بعضها بوجودية مسيحية يمثلها كل من سورين كيركغارد (1813 ـ 1855م)، وغبرييل مارسيل(1889 ـ 1973م)، ووجودية ملحدة يمثلها كل من مارتين هيدغر(1889 ـ 1976م)، وجان بول سارتر(1905 ـ 1980م)، أو وجودية فردانية نجدها عند كيركغارد وسارتر، ووجودية منطبعة بالماركسية كما عند هنري لوفيفر. وقيل بوجودية لا تنطوي تحت هذه التصنيفات كوجودية كارل ياسبرز(1883 ـ 1969م)، وموريس مرلوبونتي(1908 ـ 1961).
لقد كان للوجودية تأثير واسع على الثقافة والأدب والفنون، مثلما نلاحظ في روايات ومسرحيات سارتر، وألبير كامو، وسيمون دي بوفوار، وجان جينيه وغيرهم، وامتد تأثيرها على مظاهر الحياة الاجتماعية لاسيما لدى الشباب.
هـ ـ مدرسة فرانكفورت:
نشأت هذه المدرسة في جامعة فرانكفورت حول معهد البحث الاجتماعي الذي تأسس عام 1923 م، وكان مؤسسوها أربعة من الفلاسفة وعلماء الاجتماع، وهم: ماكس هوركهايمر (1859 ـ 1973م) مؤسس معهد البحث الاجتماعي ومديره لمدة طويلة، وأدورنو(1903 ـ 1969م) الذي عمل أستاذاً في جامعة فرانكفورت، وماركوز (1898 ـ 1979م) الذي درس الفلسفة في برلين وفريبورج وحاضر في جامعات كولومبيا وهارفارد، وكان أستاذاً للفلسفة والسياسة في جامعة براندايز، ثم اصبح استاذاً للفلسفة في جامعة كاليفورنيا بسان ديبجو، وهابرماس (1929م) الذي كان أستاذا للفلسفة وعلم الاجتماع في جامعة فرنكفورت ثم أصبح مديراً لمعهد ماكس بلانك في شتارنبرج. أسس المعهد (مجلة البحث الاجتماعي) لنشر أبحاث هذا الفريق، فكانت الأبحاث تحقيقاً لمشروع مشترك، وهو تأسيس النظرية النقدية للعلوم الاجتماعية في صيغة برنامج مشترك، وهو يعادل في الفكر المعاصر المذهب في الفلسفة الحديثة.
كانت هذه المدرسة تعمل كفريق مشترك، إذ يأخذ هوركهايمر الموقف، ويقوم زملاؤه بالبحث: (بولوك) في الاقتصاد السياسي،  و(فروم) في التحليل النفسي، و(لوفنتال) في النقد الأدبي، و(ماركوز) في الفلسفة، و(أدورنو) في الموسيقى خاصة وفي النقد الادبي والتحليل النفسي وعلم الاجتماع عامة.
أجرت مدرسة فرنكفورت مراجعة شاملة للوعي الأوروبي تكويناً وبنية، وأعادت النظر في أهم مذاهب الفلسفة الغربية وتياراتها، وقد بيَّنَ هوركهايمر وأدورنو حدود التنوير بأنه أعلى ما وصل إليه الوعي الأوروبي، وأعلنا نهايته.
و ـ البنيوية:
بلغت البنيوية أو (البنائية) ذروة ذيوعها كاتجاه فكري فلسفي في الستينات من القرن العشرين، وبات مألوفاً بين المثقفين أن يُنظَر إليها كمذهب فلسفي يتسم بالشمول ويهدف إلى تقديم تفسير موحد لعدد واسع من قضايا الفكر والمعرفة، فقد امتدت إلى ميادين متنوعة انبسطت على عدة مجالات، ففي مجال اللغويات نجد (جاكوبسون) و(شومسكي)، وفي التحليل النفسي نجد (لاكان)، وفي النقد الأدبي (رولان بارت) الذي فتح عهداً جديداً في تفسير النصوص على أساس بنائي، وفي الفلسفة كان (ميشال فوكو) يبهر الجماهير بآرائه في كتابه (الكلمات والأشياء)، أما (التوسير) فقد كان يقرأ التراث الماركسي (رأس المال) قراءة بنائية جديدة، وكان عالم الانتربولوجيا (كلود ليفي شتراوس) يواصل جهوده الحثيثة في قراءة القرابة والأسطورة في المجتمعات التقليدية، هذه الجهود التي حققت مكانة بارزة للبنيوية بين المذاهب الفلسفية في النصف الثاني من القرن العشرين.
وتعود الأفكار الأساسية لهذا المذهب إلى مؤسسها الأول السويسري فرديناند دي سوسير (1857 ـ 1913م) الذي عمل على تحديد موضوع علم اللغة، وان كان بعضٌ يذهب إلى أن مفهوم البنية وجد قبل سوسير في أعمال جان جاك روسو، وإمانويل كانط، وماركس، وفرويد، وغيرهم، بيد انه لم يصبح أداةً للتحليل وقاعدة لمنهج نظري معين إلا بعد عام 1928م.
وأبرز ما تمتاز به البنيوية فلسفياً هو محاربتها للنزعة التجريبية من جهة، وللنزعة التاريخية من جهة أخرى، فهي تذهب إلى أن العقل ينمو نمواً عضوياً بحيث تظل فيه صور هي أشبة بالنواة الثابتة، وان كنا نزيدها على الدوام توسيعاً وتعميقاً.
وبذلك تعتقد أنها انتقلت بدراسة الإنسان إلى مرحلة العلم المنضبط، وأوقفت النزعة التاريخية الطاغية، التي ترجع إلى القرن الثامن عشر، وطغت في القرن التاسع عشر، وكانت لها امتدادات قوية في القرن العشرين، تلك النزعة التي تؤكد على وجود اتصال واستمرار تاريخي بين الظواهر، فالحاضر كامن في الماضي، والمستقبل كامن في الحاضر، فجاءت البنيوية بتصور آخر لا يقوم على أساس أن التقدم يعني تراكماً تدريجياً لمكتسبات يضاف الجديد منها إلى القديم إضافة خارجية، وإنما يقوم على أساس أن الأفكار الجديدة هي مجرد توسيع لأفكار سبق ظهورها من قبل، فالعقل الإنساني لا يسير بطريقة جيولوجية، أي انه لا يضيف طبقة من المعرفة فوق طبقة أخرى، وإنما يسير بطريقة عضوية، يعيد فيها تَمثُّل القديم بطريقة أصعب وأعقد، ويحتفظ فيها ببنائه القديم، وان كان يدرك خلال تطوره أن ذلك البناء الذي كان يعد صحيحاً صحة مطلقة في وقت مضى لا يمثل إلا جانباً من الحقيقة، هو ذلك الجانب الذي كان عقلنا يستطيع بلوغه في ذلك الوقت.
بناء على ذلك يمكن القول إن طريق التقدم في نظر البنيوية يتمثل في أن كل تقدم يظل محتفظاً بالنواة المركزية، وان طريق المستقبل يمر بالماضي، وان طريق الوصول إلى الغد يتم من خلال مراجعة ما كان تم بالأمس. فالبذور القديمة موجودة دائماً، وكل ما يفعله الإنسان انه ينميها دائماً.
ز ـ ما بعد البنيوية:
منذ بداية السبعينات في القرن العشرين ظهرت محاولات في أوروبا لبناء فلسفة جديدة تملأ الفراغ الفلسفي في الثلث الأخير من هذا القرن، بعد تراجع البنيويه وتزايد الأعمال النقدية لمقولاتها، فولدت الفلسفة التفكيكية كأقوى اتجاه فلسفي معاصر من بين عدة اتجاهات بعد هذه الفترة، وأصبحت هي السائدة في فرنسا، وانتشرت بعد ذلك في الولايات المتحدة واليابان.
ورائد هذه الفلسفة الفيلسوف الفرنسسي جاك دريدا(1930) الذي بدأ بالظاهريات ثم ثنى بهيدغر، ثم تميز بعد ذلك بتحليلاته اللغوية الفلسفية الخاصة وأسس "الكلية الفلسفية" لممارسة الفلسفة التفكيكية كفريق.
وكان الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز (مات منتحراً سنة 1996م) الذي جمع بين النقد الأدبي والفلسفة من أشهر الممثلين لهذه المدرسة.
وتمثل التفكيكية آخر صرخة للوعي الأوروبي فهي ليست الحداثة بل ما بعد الحداثة، وليست البنيوية بل ما بعد البنيوية، ويقوم منهجها على تحليل وتفكيك بنية العلوم الإنسانية، فقد بدأت انطلاقة دريدا عام 1967م عندما أصدر كتاباً بفرنسا نقض فيه الفكر الغربي منذ أفلاطون في العصر اليوناني إلى هيدغر وشتراوس في هذا العصر، وحاول تشريح أعمال الفلاسفة كيما ينقضها من داخلها، فصار كل فيلسوف ينقض مقولاته بأفكاره، من خلال تفكيك أعماله وقراءتها قراءة ما يحجبه الخطاب ويخفيه.
وعلى هذا يهتم دريدا بالبحث عن ألفاظ التفكيك في الخطاب وليس ألفاظ الربط، فهو يؤسس منطق الاختلاف وليس منطق الهوية، فالأجزاء لها الأولوية على الكل، والهدم قبل البناء.
وبالتالي تبدو فلسفته وكأنها مراجعة حساب الوعي الأوروبي لنفسه، ويذكر دريدا مصطلح (نهاية الزمان) ويكثر الإشارة للغرب، وكأن الغرب قد وصل إلى نهايته دون مخلص جديد، فالفلسفة التفكيكية مراجعة الوعي الأوروبي لذاته، مفككاً نفسه بنفسه.