a

شروط التفلسف

-  "شروط" التفلسف
1-     الدهشة الفلسفية


الدّهشة هي الدّافع و المرافق لفعل التّفلسف.الدّهشة انفعال و رجّة وجدانيّة شديدة و عنيفة، و هي أيضا ذهول أمام شيء خارق للعادة و غير مألوف. و يعني فعل دهش في:" ذهاب العقل من الذّهل و الوله و قيل من الفزع". كيف تكون الدّهشة، التّي هي تعبير عن ذهاب العقل، علامة على بداية التّفكير الفلسفي، الذّي عرف  على أنّه بالأساس، ممارسة عقليّة ؟
نشأ التّفكير الفلسفي، تاريخيّا، مع دهشة الفلاسفة الأوائل تلك  الدهشة المتّصلة بالظّواهر الكسمولوجيّة، والتي تعبر عن فشل المعارف الموجودة و السّائدة ( أو العقل في حالته الخام أو المكوّن ) في تفسير ظاهرة معيّنة. وهذه الوضعيّة يجد الفكر نفسه فيها، حالما يقع في المفارقات باعتماده على آراء سائدة و غير مؤسّسة.
وللتّخلّص من هذه الوضعيّة المحرجة التّي تمثّلها الصّعوبة يقتضي تجاوزا للعقل في حالته الخام. و تجاوز البديهي من الأفكار، هنا، يؤدّي إلى الدّهشة (ذهاب العقل). إن الدّهشة بهذا المعنى اعتراف بالجهل. إنها حالة الإنسان الذّي لا يملك العلم و لا يعرف شيئا. فهو، إذن، غياب المعارف النّظريّة و إحساس قويّ بأنّ العالم المحيط غريب و ملغز. الوعي بالجهل هو أوّل مرحلة من مراحل المعرفة لأنّه يجبر على طرح السّؤال ثمّ الإجابة عنه في مرحلة لاحقة.
إن الهدف من التّفكير الفلسفي هو التّخلّص من الجهل و تحصيل معرفة منزّهة عن كلّ منفعة. والاندهاش دليل على أنّ المعرفة المطلوبة ليس الغرض منها تحقيق منفعة أو حاجة اعتياديّة بل هي المعرفة لأجل المعرفة.
كان ظهور التفكير الفلسفي مقترنا بالدهشة فهذا أرسطو يقول: « إن ما دفع الناس في الأصل وما يدفعهم اليوم إلى البحوث الفلسفية الأولى هو الدهشة» ومن هنا كانت « الدهشة هي أم الفلسفة ومنبعها الخصب!» وذلك كما قال  شوبنهاور (1788-1860) « لأن الإنسان حيوان ميتافيزيقي، ومما لا شك فيه أنه عند بداية يقظة وعيه، يتصور فهم ذاته أمرا لا يحتاج إلى عناء، غير أن ذلك لا يدوم طويلا: فمع أول تفكير يقوم به، تتولد لديه تلك الدهشة التي كانت على نحو ما، أصل الميتافيزيقيا». والمراد بالدهشة هنا ليس فقط الحيرة والتعجب بل هي حالة توتر ذهني ونفسي ممزوجة بالقلق ومفعمة بالاهتمام وأحيانا بالألم والمعاناة. وللدهشة علاقة بأكثر من مفهوم مثل: العزلة والغربة والانفصال والانفصام والذهول بل وحتى القطيعة. إلا أن الدهشة الفلسفية غير الدهشة العلمية أو العامية ذلك لأن العالم والعامي معا لا يندهشان إلا أمام الظواهر الغريبة النادرة بغية فهمها ومعرفة أسبابها كما قالت العرب«إذا عرف السبب زال العجب»، أما الفيلسوف فيتجاوزهما ليندهش أمام كل الظواهر بل وحتى أمام أكثر الأشياء والوقائع ألفة واعتيادا مستهدفا تأمل ذاته وعالمه لتكوين صورة واضحة المعالم عنهما.
وقد ظهر التفكير الفلسفي كنمط جديد في مناخ نظري-ثقافي تميز بهيمنة نوعين من التفكير: أولهما الأسطورة وثانيهما السفسطة.
فأما الأسطورة (الميثوس) فكانت تنتصب كقول ديني مقدس يعرض للخوارق وبطولات الآلهة وصراعاتهم وخلقهم لمختلف الكائنات وتدبيرهم لشؤونها وسهرهم على نظام الكون… الخ. وأما السفسطة فكانت تعتمد على أصناف الكلام المجازي والمحسنات البديعية والتلاعب بالألفاظ أو بكلمة واحدة على البلاغة لتمرير خطابها المؤسس على مركزية الإنسان في الكون، هذا الإنسان الذي قال عنه أحد أقطابها وهو بروتاغوراس (481-411ق.م)«الإنسان مقياس كل شيء».
ويمكن القول تجاوزا بأن كلا من الخطابين الأسطوري والسفسطائي كان موجها إلى المشاعر والوجدان مدغدغا إياها ومخاطبا عواطف الإنسان مكتسبا قوته إما من قداسة الدين كما هو حال الأسطورة أو من سلطة اللغة كما هو حال السفسطة.
وهكذا وجدت الفلسفة نفسها منذ بداية عهدها بالحياة مطالبة بإثبات مشروعيتها والدفاع عن كينونتها وانتزاع أحقيتها في الوجود داخل الساحة الفكرية ليونان القرن السادس قبل الميلاد. فكان تسلحها بالمنطق (اللوغوس) ومخاطبتها لأنبل ما في الإنسان ألا وهو العقل (نوس). وفي هذا يقول هيرقليطس (544-483ق.م)«دعونا نصغي لحكمة اللوغوس» ويضيف أفلاطون«علينا أن نساير العقل إلى حيث يذهب بنا».
وبعد صراع مرير بين الفلسفة(اللوغوس) والأسطورة (الميتوس) من جهة وبينها وبين السفسطة من جهة ثانية استطاعت الفلسفة-باعتمادها الحوار التوليدي كمنهج والاستدلال العقلي لإقحام الخصم والبرهنة على أطروحاتها أقول استطاعت الفلسفة- أن تشق لنفسها طريقا أوصلها إلينا اليوم ولكن ثمنها كان غاليا إذ مات سقراط من اجل أن تحيى الفلسفة.
2-     الوعي بالجهل:


أن نتفلسف هو أن نسعى دائما إلى البحث عن المعرفة (الحقيقة). و من حيث هي رغبة و إرادة للمعرفة، تنطلق الفلسفة من افتراض جهل أساسي. فالتّفلسف جهل تتبعه إرادة معرفة. وحسب أفلاطون  (أسطورة الكهف) لن يتمّ الوعي بالجهل إلا عند افتراض أفلاطون إطلاق سراح أحد السّجناء. فالسّجين الذّي أطلق سراحه و تمكّن من رؤية النّار التّي تشتعل خلف ظهره و التّي ترسل نورها على الأشياء و على الموجودات الحسّية هوالمفكّر يصاب بالحيرة و الاندهاش و ذلك لأنّه لا يستطيع التّمييز بين الحقيقة و الوهم و بين الواقع و الظّلال. يتمثّل ارتباكه في وجود مصدرين للحقيقة. لكنّ ذلك ليس بالأمر السّهل، لأنّ النّفس أو العقل ترتبك لسببين:

أ‌- عندما يخرج الإنسان، فجأة، من جهل لا يكاد يحسّ به، ليصل إلى الموجودات الخارجيّة.
ب‌- وعندما يسقط من سماء ّ المعرفة الحقّة ّ إلى ظلام المعرفة المألوفة بالواقع، فيفقد القدرة على النّظر إلى المألوف و المعتاد على أنّه هو الواقع المجسّم للحقيقة.
فكما ينبغي ّ للعين ّ أن تتعلّم كيف تتعوّد تدريجيّا على النّور أو الظّلام، فعلى ّ النّفس ّ أيضا أن تتمرّن على إدراك الماهيّات، و ذلك بأن تتدرّج في نظرها من الموجودات الحسّية، إلى الموجودات العقليّة ( كالأعداد و الأشكال) ثمّ إلى أن تنتهي أخيرا إلى الأفكار والمثل( ذلك هوالجدل الصّاعد ). إنّ التّفلسف، في نظر أفلاطون، لا يتوقّف على مجرّد الارتقاء إلى الحقيقة ( الجدل الصّاعد) بل يجب أن يتبع ذلك، رجوع إلى الحياة، لأجل تنظيمها حسب المعرفة التي تمّ تحصيلها عن الفضيلة و العدالة و الحرّية إلى غير ذلك ( و ذلك هو الجدل النّازل ).التّفلسف، إذن، كشف عن الحقيقة و استثمار لها، في نفس الوقت، عمليّا.
3-     الوعي بالتناقضات:
إن الفلسفة انتباه إلى أنّ الوجود التّاريخي في العالم إشكال لا يمكن تجاوزه. وبالتالي فالفيلسوف لا يقرّ بأنّ مجاوزة التّناقضات الإنسانية مجاوزة نهائيّة أمر ممكن بل  يقرّ بأنّ التّاريخ هو تاريخ تناقضات مستمرة. يقول هيجل في "موسوعة العلوم الفلسفية": "إن الاقتصار على النظر إلى مضمون معين، من زاوية التفاعل المتبادل.. لهو منهج يتميز بالبؤس المفاهيمي إلى أقصى الحدود. ففي هذه الحالة، فإننا نظل في مجال الواقع الخام. ولذلك فإن الحاجة إلى التوسط التي تبرز حينما يتعلق الأمر، باكتشاف سبب الارتباط، تبقى غير مشبعة. إن قصور المنهج الذي ينظر إلى الظواهر من زاوية التفاعل المتبادل، يكمن في كون أن علاقة التفاعل، بدل أن تحل محل المفهوم، يتعين عليها هي نفسها أن تكون مفهومة. وهذا لن يتأتى إلا إذا نظرنا إلى العاملين اللذين يؤثران في بعضهما البعض، على أنهما نتيجة لعنصر ثالث متسام، بدل أن ننظر إليهما كمعطيين مباشرين."
إن الفكر البشري لا يمكنه أبدا، أن يتوصل إلى حقيقة الأشياء التي يبحث عنها، دفعة واحدة، من الوهلة الأولى. إذ لابد من وسائط، من تدرج. فالحقيقة في نهاية المطاف، لن تكون إلا نتيجة تصادم أفكار متعارضة داخل الفكر.. حصيلة صراع بين الآراء. إن الفكر بدوره إذن، يخضع في بحثه عن الحقيقة، لحركة جدلية، قائمة على التناقضات، وعلى التجاوزات المستمرة. ولذلك فإن الفكر لا يمكنه أن يتوصل إلى حقيقة الشيء.. جوهره، إلا بعد استنفاذه لحركته الجدلية، أي بعد الدفع بها إلى نهايته.
4-     الشك المنهجي:
إن الشكّ هو الطّريق المنظّم و الوحيد نحو اليقين. ولكن أي شك؟
1)    لا يتعلق الأمر بالشك العادي مثل الشك في نتيجة اختبار معين أو الشك في نوايا شخص معين...
2)     ولا يتعلق الأمر بالشك الريبي (المذهبي – البيروني – العدمي) الذي يروم الشك من أجل الشك.
إننا نتحدث عن الشك المنهجي، كما مارسه ديكارت، الذي يتسم بالخصائص التالية:
1)  شكّ معرفي و أنطولوجي: لا يتعلّق فقط بالأحكام التّي نصدرها حول الأشياء، بل هو يطال الوجود ذاته  ( وجود اللّه، وجود الأشياء، وجود الأجسام الخ...) 
2)    شكّ جذري و مطلق: يشمل جميع المعارف و الموجودات ( و هو ما يسمّيه ديكارت بمسح الطّاولة)
3)    شكّ مفيد: ليس فعلا منافيا للحقيقة و اليقين، بل هو شرط الوصول إليها.
4)    شكّ وقتي: و ذلك على عكس الشكّ الرّيبي.
5)    شك مرحلي: يلتزم بمنهجية معيّنة ( الشكّ في الانطباعات الحسّية، في المعارف العقليّة و أخيرا في الوجود ذاته ).
6)  شك إرادي: يعكس رغبة في الحقيقة و اليقين. وتعبير عن إرادة واعية.وليس بشكّ اضطراري، فهو غير انفعالي و نابع عن قرار واع و إرادي ( فيه عزم و تصميم و إرادة حرّة ). لا يعبّر عن الحيرة و الضّياع بل يعكس اتّجاه الذّات نحو الحقيقة و اليقين.
7)    شك ذو غاية تأسيسيّة: بناء المعارف على أسس ثابتة و مستقرّة، بناء شجرة الحكمة  أو الفلسفة.